اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

يشرفني ان اقف هنا، في واشنطن، العاصمة التي يطبخ فيها قرار العالم، التي او تقود بالحريات بالفكر بالقيم بالمبادئ، فتكون منارة وقدوة، او تجرفها المصالح والهيمنة والتسلط والمعايير المزدوجة، وان اشارك في هذا المؤتمر العالمي الرابع للحريات الدينية، أنا الذي وهبت عمري للدفاع عن قضية الإنسان والحريات والتنوع والتعدد، لكل إنسان في كل مكان وفي اي زمان، خاصة في الشرق، وبالأخص لمسيحيي المشرق.

يحتم علينا الواجب ان نقول الحقيقة كما هي، في زمن جنون وحروب ومجازر وابادات وتهجير، تحصل كأننا امام مسلسل تلفزيوني من أوكرانيا إلى غزة إلى كاراباخ، فلا محاسبة ولا امم متحدة ولا مجلس امن. انه عالم بلا قيادة، حوالى ٢٠٠ دولة وعشرات الاف القوميات والاثنيات والطوائف والاديان والعقائد المتضاربة والمتشابكة، فكيف ندير هذا التنوع والمصالح؟

والشرق أصلا مساحة تنوع وتعدد ومهد اديان وحضارات، لكنه مع الأسف غارق في دمه، في فتنه، في تطرفه في تخلفه، في تحديات مذهلة.

الحقائق التي يجب ان نعترف بها:

اولا: ليس المشرق على قومية واحدة ولا دين واحد ولا مذهب واحد ولا لشعب واحد ولا بلغة واحدة ولا بعرق واحد. هو هكذا متنوع حتى قبل تكوين بلدانه وأوطانه ودوله في القرن الماضي. وهذه الشعوب لها كلها الحق في الحياة الحرة الكريمة، وليس فقط في الحريات الدينية، بل بالمشاركة في صناعة القرار الوطني. ليس من اقليات في الشرق، من هو اكثرية في مكان هو أقلية في مكان آخر. السنة الاكثر عددا هم أقلية في ايران والعراق والشيعة أقلية في الخليج والأكراد اكثرية في إقليمهم في العراق لكنهم أقلية في تركيا وايران وسوريا والعراق، واليزيديون والدروز وغيرهم اقليات في كل البلدان.

ثانيا: ان الفكر المسيطر في معظم الدول لا يؤمن بالحريات ولا بحقوق الإنسان ولا الجماعات ولا بالمساواة. هو فكر احادي قومي انصهاري او ديني ومذهبي، اما في السلطة عبر خوذة عسكرية او عمامة دينية او وراثة عائلية، يعتبر الحقوق منة، والأخطر اعتقاد البعض بان لله شعبا مختارا متفوقا على باقي الشعوب، او البعض الاخر انه امة افضل من باقي الامم. نحن نؤمن اننا كلنا ابناء الله متساوون في الكرامة الانسانية.

ثالثا: ان مجرد تعبير اقليات لنا مرفوض، فالمسيحيون في الشرق هم شعوب أصيلة، لها قومياتها ولغاتها وتاريخها، ومهما كان عددها ونسبها، هي جزء لا يتجزأ من نسيج بلدانها. ولا تطلب لنفسها إلا ما تطلبه لكل آخر ولكل جماعة. نحن لسنا شعوبا سرية، ولا منقرضة، ولا تدرس في متاحف، ولا معدة للتصدير والتهجير، ولا ادوات عند احد ولا أحصنة طروادة لاحد ولا في حلف اقليات ولا في محاور، ولا اصحاب رهانات على الخارج، ولا مواطنين اهل ذمة ولا درجة ثانية، ولا همنا مساعدات او بطانيات او ادوية او خيما. الشرق دون مسيحييه يفقد روحه .

رابعا: ان حجم المخاطر والمجازر من سيفو ١٩١٥ - العثمانيون ضد الأرمن والسريان والكلدان والآشوريين -إلى سيميل ١٩٣٣ في العراق - إلى داعش ٢٠١٤ في الموصل ونينوى والخابور، إلى ذبح مطارنة - رحو مثالا في العراق - وخطف مطرانين قرب حلب يوحنا ويازجي - مجهولي المصير حتى الان منذ ٢٠١٣- وتفجير كنائس وتهجير قرى إلى اقتلاع شعوب من أراضيها، خاصة مع الاضطهاد وتصاعد الفكر الالغائي التكفيري الظلامي -داعش -، بالإضافة إلى وضع اقتصادي بائس دون بصيص نور، جعل الحياة في بلدان الشرق تحد مذهل وشبه مستحيل.

خامسا: ان غياب الديموقراطية والحريات ومبادئ حقوق الإنسان وتنامي الإرهاب هو من علامات الشرق، اي فكر سينتصر، اي وجه للإسلام، اي معنى للعروبة، كيف نوقف الدم، كيف نجد حلا للقضية الفلسطينية المعلقة منذ عام ١٩٤٨، كيف نواكب العصر؟ اسئلة عميقة تهز وجدان كل شعوب المنطقة

سادسا: التحدي الاخطر هو في الشعوب نفسها، هل يستسلم المسيحيون لفكرة ان لا مستقبل لهم في الشرق، هل هم آخر الآراميين واخر الهنود الحمر وصاروا بلا قضية إلا جواز سفر والهروب إلى غر ؟ اين دورهم ورسالتهم وانفتاحهم؟ انه نضال لشرق مختلف، لقضية، لحق كل مسيحي مشرقي، بل لكل مشرقي، ان يكون بلغاته وطقوسه وأديانه ومذاهبه وفكره، رائد توجه سياسي حضاري. الهجرة ليست حلا بل موتا. من يهجر ويترك ارضه يخسر كل شيء.

سابعا: ان مسؤولية النخب العربية والإسلامية خطيرة، إذا تطلع اي إنسان إلى واقع الشرق لأدرك ان انهيار الدول والأنظمة صار واقعا وان التفتت والتخلف والأزمات عنوان المرحلة، نحن بحاجة إلى ثورة فكر وتجدد ونهج آخر، الى وقف موجات التكفير والحقد ورفض كل آخر من منظمات ارهابية، إلى اعادة الثقة في امكانية الشرق في تجاوز سقوطه إلى نهضة حقيقية، لكن اين القيادات؟ من يتجرأ؟

ثامنا: ان مسؤولية الغرب، ما درج على تسميته العالم الحر عظيمة، ان العمى الفكري وغياب الرؤية والقيادة والقيم، واللهاث خلف المصالح المادية فقط، والانحياز، والتخبط، جعل مصير شعوب بأسرها غير ذي بال، وإيجاد حلول لأزمات المنطقة ينتظر عقودا، ودعم أنظمة فاسدة ودكتاتورية من عدة العمل - وحتى احيانا دعم ارهاب -، فهل يستيقظ الغرب على ضرورة اعادة نظر في مستقبل الشرق؟

تاسعا: ان دور المنظمات المدنية مثل lRF ممكن ان يساهم في تحريك لوبيات عالمية للتشديد على حق كل إنسان وكل جماعة ليس فقط للحريات الدينية ممارسة وعقيدة بل لكل الحقوق السياسية في المواطنةً والمساواة. ومن هنا أنا أدعوكم إلى مزيد من عطاء، لنكون معا صوت الحق، صوت الدفاع عن الذين لا صوت لهم، رأيا حرا ضد القمع ضد التسلط ضد الاحادية ضد سجون الرأي ضد الكبت. لا تخافوا لا تسيسوا القضية لمصالح، اعملوا على تجذر الناس في ارضها في أوطانها. انه عالم هويات إذا تفجرت هلكنا. علينا اعادة الثقة بالمبادئ وبناء جسور تواصل بين كل الديانات والقوميات وتفاعل خلاق.

عاشرا وانا الاتي من لبنان، لا يمكنني، رغم كل انكساراتنا وفساد نظامنا، إلا ان أنوه بأنه آخر ضوء في الشرق، المكان الوحيد الذي يتشارك فيه المسيحيون والمسلمون مناصفة في صناعة السياسة والحكم، حيث يمكن لـ١٩ طائفةً ان تحيا معا بسلام - رغم سقطات ومشاكل وحروب اهلية - وان تغير دينك دون خوف وان تمارس دينك او حتى الحادك دون قيود. علينا دعم هذه التجربة دائما لانها رسالة في العيش الواحد بين حضارات واديان، ولأنها كنز وثروة وغنى حضاري.

نحن امام امتحان رهيب لحصيلة التاريخ. كلنا مسؤول عن بعضنا امام الله والتاريخ.

كلنا مضطهدون فلنكف عن ان نكون اما ضحية او جلادا.

علمنا التاريخ ان كل الثورات تبدأ بالعقل، وفي الكتاب المقدس ان في البدء كان الكلمة. وكلامنا هنا لنغير، لنطمح إلى شرق جديد، إلى عالم جديد، إلى رجاء جديد، اقل كراهية وعنفا والى عالم اقل جنونا وحروبا. لتكون لنا كلنا حياة وتكون حياة افضل.

*كلمة حبيب افرام رئيس الرابطة السريانية امين عام اللقاء المشرقي في المؤتمر العالمي للحريات الدينية في واشنطن ٣٠ كانون الثاني ٢٠٢٤ بعنوان : «التنوع بعيون الاقليات في الشرق». 

الأكثر قراءة

«اسرائيل» تواصل التهويل: انسحاب حزب الله او الحرب الشاملة تعديلات بالشكل لا بمضمون «الورقة الفرنسية» لا بروفيه وامتحان موحد لـ«الثانوية»