اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

نصّت المادة 87 من الدستور اللبناني على أنّ «حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة یجب أن تعرض على المجلس، ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة، وسیوضع قانون خاص لتشكيل ديوان المحاسبات». بمعنى آخر، يتوجّب على الحكومة عرض الحسابات الفعّلية (المُنفّذة) للعام المُنصرم على المجلس النيابي، كشرط أساسي لموافقة هذا الأخير على نشر موازنة العام الذي يلي. وللتذكير، فإن قطع الحساب هو الموازنة الفعلية المنفّذة، والذي يستند عليه مجلس النواب لمراقبة الإنفاق الحكومي، ويُشير إلى مدة مصداقية الموازنات التي تقترحها الحكومة، ولكن الأهم هو الرقابة إذا كان الصرف قد تمّ ضمن الأصول القانونية والإنتظام المالي العام.

وقدّ أدّت الأحداث التي عصفت بلبنان منذ إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصولًا إلى معارك فجر الجرود، مرورًا بالعدوان الإسرائيلي في العام 2006 وأحداث أيار 2008، والإنقسام السياسي الحاد بين 8 و 14 أذار في الأعوام التي تلت، والتفجيرات التي حصلت في الأعوام 2013 و2014 كنتيجة للصراع في سوريا، والفراغ الرئاسي في العام 2014 ، الذي إمتد إلى العام 2016...

كل هذا أدّى إلى وقف إقرار موازنات عامة في لبنان إمتدّت على فترة إثني عشر عامًا ، تم خلالها الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية مع إعتمادات من خارج الموازنات تمّت بموافقة ومباركة القوى السياسية المُمثّلة في المجالس النيابية المُتتالية.

هذا الواقع رفع الدين العام خلال الفترة المُمـتدّة من نهــاية العام 2005 إلى نهــاية العــام 2016 من 38.5 مليــار دولار أميركي إلى أكثر من 72 مليار دولار أميركي ،من دون أن يكون هناك حسيب أو رقيب. لا بل أكثر من ذلك، عمدت القوى السياسية إلى إتهام بعضها البعــض بالفســاد وبهدر المال العام، من دون أن يعمد المجلس النيابي إلى فتح تحقيق برلماني في هذا الأمر، ذاهبًا إلى قوننة الصرف الذي تمّ خلال فترة 2006 إلى 2011 بعد تسوية سياسية.

سمح المجلس النيابي لنفسه بتخطي الدستور في العديد من الموازنات عبر اقرارها من دون قطع حساب، وهذا ما حصل في موازنات ما بعد العام 2017! وقام المجلس الدستوري في كل مرّة تمّ الطعن بقانون الموازنة على أساس غياب قطاع الحساب، بردّ الطعن مكتفيًا بإبطال بعض المواد المطعون فيها.

وإستخدم المجلس الدستوري حجّة الظروف الإستثنائية لردّ الطعن، مُستندًا إلى إجتهاد فرنسي ينص على: «في الواقع، من غير المقبول ألا يتمكن المجلسان من تلقي المقترحات والتصويت عليها خلال فترة الشغور. قد تكون هناك أزمات خطيرة تتطلب إقرار إجراءات تشريعية عاجلة للغاية، ولا يمكننا القبول بتجريد السلطات بأي شكل من الأشكال من أسلحتها « (ليون دوجيت).

وبرّر المجلس الدستوري قراره بتفادي الوقوع في الفوضى في الميزانية العامة، على الرغم من إعترافه الواضح بالمخالفة. وبإعتقادنا، فإن قرار المجلس الدستوري هو تكريس لهذه المخالفة الدستورية – أي إقرار الموازنة من دون قطع حساب، بحكم أنه ومنذ العام 2017، يُعطي المجلس النيابي مُهلًا للحكومة لتقديم قطوعات الحساب، لكن دون جدوى.

عمليًا التداعيات كارثية! فقد أصبح معلومًا أن سبب الأزمة هو الدين العام الذي تراكم نتيجة العجز في الموازنات (بمعدّل 3.1 مليار دولار أميركي سنويًا)، وتمّ تمويل هذا الدين العام داخليًا من قبل القطاع المصرفي بشقّيه مصرف لبنان والمصارف التجارية بنسبة 85% كما ورد في تقرير «بنك أوف أميركا – ميرل لينش» في تشرين الثاني 2019. بمعنى آخر من تسهيلات مصرف لبنان ومن أموال المودعين، التي تمّ إستنزافها لإقراض الدولة اللبنانية، وما الكهرباء إلا المثال الصارخ على هذا الإستنزاف، الذي أدّى إلى عجز القطاع المصرفي عن التجاوب مع الطلب المُفرط للمودعين لإسترداد أموالهم.

المُصيبة وقعت! لكن ما الحل للخروج من الأزمة؟ يُجيب صندوق النقد الدولي بأنه على الدولة القيام بإصلاحات، وحدّد لها خمسة إصلاحات أساسية لم تستطع الدولة إلى إجراء إصلاحين منها فقط، وهذان الإصلاحان غير مُكتملين، عنيتُ بذلك الموازنة ورفع السرية المصرفية. وحتى لو تمّ إقرار كل الإصلاحات بالكامل، فإن النتيجة لن تكون كما نتمناه، خصوصًا أن العروضات الحكومية كلها تصبّ في خانة شطب الودائع، وهو أمر مرفوض إقتصاديًا وماليًا (وبالطبع أخلاقيًا)!

يُشكّل الدين العام النقطة السوداء الأساسية في تاريخ الدولة اللبنانية. وبإعتقادنا أن الثقة بالإقتصاد اللبناني والمؤسسات العامة والخاصة، لن تعود قبل إقرار قطوعات حساب مُقرّة حسب الأصول ومطروحة للرأي العام وللخبراء، لإطلاع على التجاوزات التي تمّت فيها.

ويقول البعض أن طرح قطوعات الحساب سيؤدّي إلى خلاف حاد بين المكونات اللبنانية ويُعيد الساعة إلى الوراء، إلا أنه بإعتقادنا هذا هو المنفذ الوحيد للخروج السليم من الأزمة التي تعصف بلبنان. ويقول البعض الأخر أن كل الأزمة هي نتاج للصراع الجيوسياسي القائم في المنطقة وخصوصًا الصراع مع العدو الإسرائيلي، إلا أن الواقع هو كالتالي: إستغلّت الدول الخارجية الواقع اللبناني مع ما شابه ويشوبه من ممارسات مُخالفة للقوانين للدخول والتأثير على لبنان، إلا أنه لا يعني بأي شكل من الأشكال أن هذه الممارسات المُخالفة للقوانين هي نتاج الدول الخارجية بل هي نتاج أعمالنا.

بلغ الدين العام اللبناني قبل وقف دفع سندات اليوروبوندز 96 مليار دولار أميركي وتمّ تمويل هذا الدين من أموال المودعين بنسبة 85%.

ويحق للمودعين والمكلفين معرفة أين ذهبت عشرات مليارات الدولارات من الدين العام وأين صُرفت. أكثر من ذلك، يتوجّب رفع السريّة المصرفية بالكامل وبدء تطبيق القانون 44\2015 بكل مُندرجاته.

كل إصلاح لا يأخذ بعين الإعتبار نشر قطوعات الحساب ومعرفة أين صُرف المال العام خلال الفترة التي توقّفت فيها قطوعات الحساب (وبالمطلق في أي فترة) هو إصلاح غير جدّي وهدفه الإستمرار بسياسة الترقيع مدعومة بتبعية سياسية قاتلة من قبل الناخبين.