اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


أولئك المسيحيون الذين نعرفهم، وقد أنتجوا النخب التي فتحت أمامنا أبواب الحداثة، بمفهوم الفيلسوف الكاثوليكي غبرييل مارسيل، وحيث الوعي بالآخر كنتيجة للوعي بالذات والتفاعل مع الآخر. وحين أنشؤوا لبنان، أو حين أنشئ من أجلهم لبنان، لم يكونوا يريدونه نسخة عن جهنم كما هو الآن، فبركة للكراهيات وللغرائز وللدماء...

العرب رأوا فيه الاشعاع الذي يضيء العقل ويضيء القلب، ورأوا فيه الأيقونة إن بسحر العطاء أو بسحر الهواء. بدر شاكر السياب، الآتي من حضارة بلاد الرافدين، كان يقول في مقهى "الهورس شو": "لكأنني هنا أتنشق الله". وقال "لكأن الله لم يبق الا هنا".

ولطالما قيل ان قامات الرجال عندنا قامات الجبال. من جعل تلك القامات شواهد للقبور؟ أولئك القادة المبجّلون الذين جعلوا من لبنان بحجم الخندق وبحجم عود الثقاب. عود ثقاب فقط وينفجر بركان الدم.

بدل أن يتمثلوا الأم تيريزا، وحتى ميشال شيحا، تمثلوا كهوف تورا بورا. رقصة الروك اند رول في تورا بورا، هكذا سخر محمد الماغوط من ذلك النوع من الكائنات البشرية.

فقط للبقاء على عروشهم، ولفتح القبور لاستضافة الضحايا. باسكال سليمان قتل بأيد همجية. وكم قتل لبنانيون آخرون ومن طوائف مختلفة بالدافع اياه؟ ما دمنا في "حارة كل من ايدو الو"، وبعدما اتجهت أصابع النار الى ذاك الآخر، الذي كل خطيئته أنه حمل السلاح لاجتثاث البرابرة من الجنوب ومن السفوح الشرقية، وقد كانوا يعدون العدة براياتهم السوداء وبعقولهم السوداء، لتحويل لبنان بمسيحييه ومسلميه الى أرض يباب.

ما تناهى الينا عبر مواقع التواصل أدبيات شارع معبأ. ولكن أن يدعو وزير سابق الى الفتنة، (الفتنة العمياء) ببدعة ان ذلك السلاح هو المسؤول عن استشراء لغة السلاح. يا صاحب المعالي، هل لك عينان وهل لك أذنان، وأنت ابن أولئك الآباء الذين عاشوا آلام القهر وآلام الاقتلاع وآلام الترحيل، ليأتوا الى لبنان ويكونوا نموذجاً للرقي وللاتزان؟ كفانا استشراء الأدمغة الآسنة.

ليس دفاعاً عن أحد. دفاعاً عن لبنان الذي لن يبقى أذا بقي التأجيج الطائفي يأخذ هذا المنحى المروع. أنتم الذين هنا، وأنتم الذين هناك، أبناء أرض واحد اذا قرأتم ما كتب عن "عبقرية المكان"، ودوره في صناعة الأزمنة.

لنتذكر ما فعلته التعبئة الطائفية عشية الحرب الأهلية. مثلما كان هناك من يقطع الرؤوس بالفؤوس، كان هناك من يعرض الجماجم على عربات الخضر. هذا لندرك جميعاً اي جحيم ينتظرنا في ظل ذلك الاستقطاب...

ليس المسيحيون وحدهم في خطر اذا كان بعض قادتهم يدفعونهم نحو القوقعة، اللبنانيون كلهم في خطر. ما يمكن أن تعجز عنه "اسرائيل"، بحلمها التوراتي أو التلمودي لازالة لبنان، نقوم به بأيدينا.

لسنا من المعجبين بجان ـ ايف لودريان، ولا نؤمن بتألقه الديبلوماسي، لكن الرجل استند الى آراء رجال الكي دورسيه والى تقارير أجهزة الاستخبارات، لينقل الى مسؤول خليجي كبير بأن لبنان يتدهور، ولا يريد أي من الساسة هناك وقف هذا التدهور. كان تعليق دومينيك دو فيلبان، ذاك السياسي الرائع، "لن تشرق الشمس ثانية في الشرق الأوسط".

كنا نتصور أن أحداث غزة، وقد هزت الفجيعة حتى ديناصورات القرن، يمكن أن تكون الأمثولة لنا في ادراك نوع الخطر الذي يتهددنا. ولكن يبدو أن بعض القادة، وبذهنية آكلة لحوم البشر، يعتقدون بل يجزمون، بأن "الاسرائيليين سيفعلون بأحد الأطراف اللبنانية ما فعلوه بذلك الطرف الفلسطيني". متى كان للمغول الجدد أن يفرقوا بين فلسطيني وفلسطيني، ليفرقوا بين لبناني ولبناني؟

كيف يمكن لأي رجل سياسة أن يأخذ بذلك الرهان. المشهد الشرق أوسطي في منتهى الضبابية. لا مجال البتة للرهان على اليوم التالي. القوى التي لا تستطيع فرض التسوية، لا تريد أن تندلع الحرب. ولكن من تراه يكبح بنيامين نتنياهو الذي يتصور أن الانتصار يتحقق بالجيب الأخير في رفح؟ الفشل في رفح، وهو حتمي، يجعله يبحث عن الانتصار في لبنان، وما يعنيه لبنان. لكن المستودعات الأميركية مقفلة في وجهه. هكذا نقل رسمياً الى مرجع لبناني.

أيها المسيحيون أننم الخلاص لا الخراب، آباؤكم حولوا الصخور الى حدائق معلقة، وبنوا الأديرة لتكون ملاذاً للمعذبين، وجعلوا من القرى أرائك للقمر. قادتكم لم يسأموا من لغة الغربان. عن أي جثث تبحث هذه الغربان؟ 

الأكثر قراءة

عرب الطناجر...